كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا بِمَا وَعَدَنَا بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَة مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَأَخْبَرَنَا بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ وَيُنْكَحُ وَيُفْرَشُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا مَعْرِفَتُنَا بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا؛ لَمْ نَفْهَمْ مَا وَعَدَنَا بِهِ؛ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ؛ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرُ قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. فَبَيْنَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا وَتِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُشَابَهَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَاشْتِرَاكٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَبِهِ فَهِمْنَا الْمُرَادَ وَأَحْبَبْنَاهُ وَرَغِبْنَا فِيهِ أَوْ أَبْغَضْنَاهُ وَنَفَرْنَا عَنْهُ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ وَمُفَاضَلَةٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ حَقًّا وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ حَقًّا. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَإِلَّا فَهَلْ يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ وَيُبَلِّغُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَلْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظِ لَهَا مَعَانٍ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ؛ أَرَادُوا بِهِ الْكَيْفِيَّةَ الثَّابِتَةَ الَّتِي اُخْتُصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهَا: وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ: كَرَبِيعَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا يَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ. فَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَالْكَيْفِيَّةُ هِيَ التَّأْوِيلُ الْمَجْهُولُ لِبَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ تَعْلَمُ الْعِبَادُ تَفْسِيرَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».
فَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: نَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَنَفْهَمُ الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الْعَسَلِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنُفَرِّقُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا حَقَائِقُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهَا نَحْنُ وَلَا نَعْلَمَ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ. وَتَفْصِيلُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. بَلْ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذَيْنِ الْمَخْلُوقَيْنِ فَالْأَمْرُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ؛ فَإِنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ وَعَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَفَضْلَهُ: أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِمَّا بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ. فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ مَعَ مُشَابَهَتِهَا لِصِفَاتِ هَذَا الْمَخْلُوقِ: بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاضُلِ وَالتَّبَايُنِ مَا لَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا- وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهُ؛ بَلْ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَصِفَاتُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مِنْ التَّبَايُنِ وَالتَّفَاضُلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمَهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ التَّفْسِيرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَلَفْظُ التَّأْوِيلِ فِي كَلَامِ السَّلَفِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا التَّفْسِيرُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا: كَمَا فِي قَوْله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الْآيَةَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ التَّأْوِيلِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ لِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يُرَادُ مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ هَذَا بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ}. ثُمَّ طَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ. وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ غالطة؛ فَإِنَّ هَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ انْتِفَاءَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ. وَهَذَا مِثْلُ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ. وَتِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ بَاطِلَةٌ وَاَللَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِكَلَامِهِ وَمَا لَمْ يُرِدْهُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُهُ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْكَذِبَ؛ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمْنَا بِطَرِيقِ خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَفْسِهِ- بَلْ وَبِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى- أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ: مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَهَذِهِ صِفَاتُ كَمَال. وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَخْلُوقُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ: يَقْتَضِي مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُشَابَهَةِ مَا بِهِ تُفْهَمُ وَتُثْبَتُ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ؛ لَمْ نَكُنْ قَدْ عَرَفْنَا عَنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا صَارَ فِي قُلُوبِنَا إيمَانٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا إرَادَةٌ لِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ إلَّا بِإِثْبَاتِ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي فِيهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُوَاطَأَةِ مَا بِهِ حَصَلَ لَنَا مَا حَصَلَ مِنْ الْعِلْمِ لِمَا غَابَ عَنْ شُهُودِنَا. وَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الشَّرِيفَةَ وَالْقَوَاعِدَ الْجَلِيلَةَ النَّافِعَةَ؛ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَانْجَابَ عَنْهُ مِنْ الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وَمِنْ سَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي بَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ كَالْقَوْلِ فِي سَائِرِهَا وَأَنَّ الْقَوْلَ فِي صِفَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ صِفَةً دُونَ صِفَةٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُشَارَكَةِ أَحَدِهِمَا الْأُخْرَى فِيمَا بِهِ نَفَاهَا؛ كَانَ مُتَنَاقِضًا. فَمَنْ نَفَى النُّزُولَ وَالِاسْتِوَاءَ أَوْ الرِّضَى وَالْغَضَبَ أَوْ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ أَوْ اسْمَ الْعَلِيمِ أَوْ الْقَدِيرِ أَوْ اسْمَ الْمَوْجُودِ فِرَارًا بِزَعْمِهِ مِنْ تَشْبِيهِ تَرْكِيبٍ وَتَجْسِيمٍ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ فِيمَا نَفَاهُ هُوَ وَأَثْبَتَ الْمُثْبِتُ. فَكُلُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْإِرَادَةِ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْمَوْجُودِ وَالْوَاجِبِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لابد مِنْ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ: إمَّا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ؛ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَقَدِيمٌ. وَالْمُمْكِنُ الْمُحْدَثُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوَاجِبِ قَدِيمٍ فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا؛ عُلِمَ أَنَّ مَنْ عَطَّلَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ كَانَ قَوْلُهُ مُسْتَلْزِمًا تَعْطِيلَ الْمَوْجُودِ الْمَشْهُودِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ إلَّا لِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ؛ فَيَلْزَمُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمَلْزُومِ. أَوْ قَالَ؛ هَذِهِ حَادِثَةٌ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ وَالْمَحَبَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّا كَمَا لَا نَعْقِلُ مَا يَنْزِلُ وَيَسْتَوِي وَيَغْضَبُ وَيَرْضَى إلَّا جِسْمًا؛ لَمْ نَعْقِلْ مَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيُرِيدُ وَيَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ إلَّا جِسْمًا. فَإِذَا قِيلَ: سَمْعُهُ لَيْسَ كَسَمْعِنَا وَبَصَرُهُ لَيْسَ كَبَصَرِنَا وَإِرَادَتُهُ لَيْسَتْ كَإِرَادَتِنَا وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ: قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ رِضَاهُ لَيْسَ كَرِضَانَا وَغَضَبُهُ لَيْسَ كَغَضَبِنَا وَفَرَحُهُ لَيْسَ كَفَرَحِنَا وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْسَ كَنُزُولِنَا وَاسْتِوَائِنَا.
فَإِذَا قَالَ: لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ غَضَبٌ إلَّا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَلَا يُعْقَلُ نُزُولٌ إلَّا الِانْتِقَالُ وَالِانْتِقَالُ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ حَيِّزٍ وَشَغْلَ آخَرَ فَلَوْ كَانَ يَنْزِلُ؛ لَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ. قِيلَ: وَلَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إرَادَةٌ إلَّا مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى جَلْبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْفَعُهُ وَيَفْتَقِرُ فِيهِ إلَى مَا سِوَاهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِي حَدِيثِهِ الْإِلَهِيِّ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي» فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ. إلَّا هِيَ. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا بِدُخُولِ صَوْتٍ فِي الصِّمَاخِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا فِي مَحَلٍّ أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخَلْقٌ مِنْ السَّلَفِ: الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الصَّمَدِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَالصَّمَدُ فِي اللُّغَةِ السَّيِّدُ؛ وَالصَّمَدُ أَيْضًا الْمُصَمَّدُ وَالْمُصَمَّدُ الْمُصْمَتُ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: الْمَلَائِكَةُ صَمَدٌ وَالْآدَمِيُّونَ جَوْفٌ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ آخَرُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ- وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ النُّورِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ نَارٍ؛ وَخُلِقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» فَإِذَا كَانُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُورٍ؛ وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ؛ بَلْ هُمْ صَمَدٌ لَيْسُوا جَوْفًا كَالْإِنْسَانِ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَيَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا تُمَاثِلُ صِفَاتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِعْلَهُ؛ فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مَخْلُوقٌ. وَالْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ رُوحُ ابْنِ آدَمَ تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَنْزِلُ وَتَصْعَدُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ صِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا كَصِفَاتِ الْبَدَنِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَاتِ الرُّوحِ وَأَفْعَالَهَا مِثْلُ صِفَاتِ الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْجَسَدُ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِهِ وَهُمَا جَمِيعًا الْإِنْسَانُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رُوحُ الْإِنْسَانِ مُمَاثِلًا لِلْجِسْمِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ مِثْلَ الْجِسْمِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟!
فَإِنْ أَرَادَ النَّافِي الْتِزَامَ أَصْلِهِ؛ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يُثْبِتُونَ الْإِدْرَاكَ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْهُمْ- فَلَا أُثْبِتُ لَهُ سَمْعًا وَلَا بَصَرًا وَلَا كَلَامًا يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ أَقُولُ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ وَتَشْبِيهٌ بَلْ وَلَا أُثْبِتُ لَهُ إرَادَةً كَمَا لَا يُثْبِتُهَا الْبَغْدَادِيُّونَ؛ بَلْ أَجْعَلُهَا سَلْبًا أَوْ إضَافَةً فَأَقُولُ: مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُكْرَهٍ أَوْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ خَالِقًا وَآمِرًا- قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مُطْبِقَةٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا؛ فَإِذَا جَعَلْته حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا؛ لَزِمَك التَّجْسِيمُ وَالتَّشْبِيهُ. فَإِنْ زَادَ فِي التَّعْطِيلِ وَقَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَأَنْفِي الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَلَا أُسَمِّيهِ حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا مُتَكَلِّمًا إلَّا مَجَازًا بِمَعْنَى السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ: أَيْ هُوَ لَيْسَ بِجَاهِلِ وَلَا عَاجِزٍ وَجَعَلَ غَيْرَهُ عَالِمًا قَادِرًا- قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مَوْجُودًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ قَدِيمًا فَاعِلًا؛ فَإِنَّ جَهْمًا قَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ كَوْنَهُ فَاعِلًا قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ فَلَا تَشْبِيهَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَقَامِ؛ فَلابد لَهُ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَيَقُولَ: أَنَا لَا أَصِفُهُ بِصِفَةِ وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ أَوْ لَا مَوْجُودٌ وَلَا غَيْرُ مَوْجُودٍ بَلْ أُمْسِكُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فَلَا أَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَا أَصِفُهُ قَطُّ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ بَلْ بِالسَّلْبِيِّ؛ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُوَ مَعْدُومٌ؛ فَالْقِسْمَةُ حَاصِرَةٌ. فَإِنَّهُ؛ إمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ فَيَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَصِفُهُ بِالثُّبُوتِ بَلْ بِسَلْبِ الْعَدَمِ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ لَيْسَ بِمَعْدُومِ.
وَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ فَيَقُولَ: مَا ثَمَّ وُجُودٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَقَالَ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْ النَّقِيضَيْنِ: لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ. قِيلَ: هَبْ أَنَّك تَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ بِلِسَانِك؛ وَلَا تَعْتَقِدُ بِقَلْبِك وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ تَلْتَزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ فَلَا تَذْكُرُهُ قَطُّ وَلَا تَعْبُدُهُ وَلَا تَدْعُوهُ وَلَا تَرْجُوهُ وَلَا تَخَافُهُ؛ فَيَكُونُ جَحْدُك لَهُ أَعْظَمَ مَنْ جَحْدِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ فَامْتِنَاعُك مِنْ إثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُمَا؛ بَلْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لابد أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ- أَيَّ شَيْءٍ كَانَ- إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ وَلَيْسَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةٌ أَصْلًا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ جَحَدْته أَنْتَ أَوْ اعْتَرَفْت بِهِ وَسَوَاءٌ ذَكَرْته أَوْ أَعَرَضْت عَنْهُ؛ فَإِعْرَاضُ الْإِنْسَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالسَّمَاءِ لَا يَدْفَعُ وُجُودَهَا وَلَا يَدْفَعُ ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ؛ بَلْ بِالضَّرُورَةِ الشَّمْسُ إمَّا مَوْجُودَةٌ وَإِمَّا مَعْدُومَةٌ فَإِعْرَاضُ قَلْبِك وَلِسَانِك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَيْفَ يَدْفَعُ وُجُودَهُ وَيُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فَلابد أَنْ يَكُونَ إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ مَوْجُودٌ؛ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: سَلْبُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ إثْبَاتٌ لِلْآخَرِ فَأَنْتَ غَيَّرْت الْعِبَارَةَ؛ إذْ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْسَ بِمَعْدُومِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ يُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ فَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ أَلْتَزِمُ أَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعَقْلِ وُجُودُ مَوْجُودَاتٍ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ- كَمَا نَعْلَمُ نَحْنُ أَنَّا حَادَثُونِ بَعْدَ عَدَمِنَا وَأَنَّ السَّحَابَ حَادِثٌ وَالْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ حَادِثٌ وَالدَّوَابَّ حَادِثَةٌ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمَشْهُورَةُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِذَاتِهَا؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَوَجَبَ قِدَمُهُ وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ؛ فَدَلَّ وُجُودُهَا بَعْدَ عَدَمِهَا عَلَى أَنَّهَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَيُمْكِنُ عَدَمُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا قَدْ تَحَقَّقَ فِيهَا؛ فَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ اشْتِمَالُ الْوُجُودِ عَلَى مَوْجُودٍ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ حِينَئِذٍ: الْمَوْجُودُ وَالْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ لابد لَهُ مِنْ مُوجِدٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُحْدَثِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ قُوَّتِهِ وَوُجُودِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَاتِهِ عُضْوًا وَلَا قَدْرًا فَلَا يُقَصِّرُ الطَّوِيلَ وَلَا يُطَوِّلُ الْقَصِيرَ وَلَا يَجْعَلُ رَأْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ وَلَا أَصْغَرَ وَكَذَلِكَ أَبَوَاهُ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ عَدَمِهِ لابد لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْفِطْرَةِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَرَبَهُ ضَارِبٌ وَهُوَ غَافِلٌ لَا يُبْصِرُهُ لَقَالَ: مَنْ ضَرَبَنِي؟ فَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَضْرِبْك أَحَدٌ؛ لَمْ يَقْبَلْ عَقْلُهُ أَنْ تَكُونَ الضَّرْبَةُ حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لابد لِلْحَادِثِ مِنْ مُحْدِثٍ؛ فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ ضَرَبَك؛ بَكَى حَتَّى يَضْرِبَ ضَارِبَهُ؛ فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ وَبِالشَّرْعِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: وَجَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}؟ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ». وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ ذَكَرَهُ اللَّهُ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهَا يَقُولُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؛ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كِلَا النَّقِيضَيْنِ بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لابد لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَالْمَوْجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لابد لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودٌ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَانِ قَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ مَوْجُودًا فِي الشَّاهِدِ إلَّا جِسْمًا؛ فَلَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ الَّذِي ادَّعَاهُ.